“يا عديم الشرف، هل أحببتَها فعلًا أم أحببتَ فيها رائحة امرأة عربية؟”
في عملها الروائي الجديد “تشريح الرغبة” (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2022)، تتكئ الكاتبة المغربية ريم نجمي، المقيمة في ألمانيا، على لعبة فنية تكتيكية، تُمكّنها من الإيهام بغياب المؤلف على طول الخط، وكذلك تمنحها المجال لإلغاء حضور الراوي العليم الذي يرى ويسرد من خارج الحدث، وقد يدّعي امتلاكه الحسم اليقيني في ما لا يخصّه من سجالات متشابكة بين أطراف الصراع.
هذه اللعبة، هي بناء هيكل الرواية بالكامل (ستة فصول تستغرق 334 صفحة)، والإفصاح عن سائر وقائعها من الألف إلى الياء، عبر مجموعة من “الإيميلات” المتبادلة بين شخوص الرواية الأساسية الثلاثة (الزوج المغربي، الزوجة الألمانية، المرأة السورية)، وهي ثلاثون رسالة إلكترونية، تتسع كل واحدة منها لجانب من الحقيقة وفق رؤية كاتبها ووجهة نظره النسبية، وذلك منذ بداية الانفصال بين الزوجين المقيمين في ألمانيا إثر أزمات منتصف العمر وخريف العلاقة الجسدية وتراكمات المشاعر المختلطة والمتناقضة والصدامات الإنسانية والحضارية (4 ديسمبر/ كانون الأول 2016)، حتى آخر رسالة من الزوجة بعد عام ونصف العام من إتمام الطلاق (1 أبريل/ نيسان 2019).
وفي تلك الرسالة الأخيرة، تكشف الزوجة لزوجها، أن محصّلة هذه الرسائل الثلاثية هي بحد ذاتها مادة “عمل إبداعي” قررت الزوجة أن تُخرجه إلى النور وتنشره في الشمس والهواء، لتستردّ من خلاله حريتها وتتحلل من بقايا شريكها وتستعيد توازنها بعد الانفصال المرير الذي أنهى زواجًا استمر ربع قرن.
وهذا العمل الإبداعي الذي تقصده الزوجة الأديبة، القائم على الحفر الباطني القاسي ونسج العالم الفني بخيوط الرسائل الإلكترونية، هو بطبيعة الحال هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ “تشريح الرغبة”، وعنه تقول الزوجة في نهاية الرواية: “لقد جمّعتُ رسائلنا نحن الثلاثة بدءًا من تاريخ انفصالي أنا وأنت، دون أن أغيّر في ترتيبها الزمني أو أحذف واحدة أو فقرة أو كلمة. كنت أمينة معها، وفية لها، فلم أقتطع بعض المقاطع الحميمة ولم أشذّبها أو أمارس عليها أي نوع من الرقابة. كما لم أفكّر في أن أجمّل صورتي أو أشيطن صورتكَ أو صورتَها. وضعتها كما كتبناها تمامًا في كتاب، هذا الكتاب”.
تحيل الرواية في مداها الزمني القصير إلى حدث محوري، هو انفصال الزوجين؛ “عادل”، ذي الأصل المغربي، والألمانية “يوليا”، بعد زواج انبنى على حب عنيف وتوافق روحي وانسجام جسدي ودام 25 عامًا، ثم بدأت تغزو علاقتهما الأزمات المتتالية ويمزقها الفتور والجمود وتدمّرها الفروق والاختلافات بينهما في العرق والدين والجذور والخلفيات الثقافية والحضارية وغيرها، وهما على مشارف الخمسين، من دون أن ينجبا أطفالًا.
التمهيد للرواية قبل بداية فصولها بهذه العبارة المثيرة الشيّقة “شخصيات هذه الرواية، وإن بدت شبيهة بشخصيات واقعية، فإنها هي الشخصيات الأصلية. أما الشخصيات الواقعية، التي تقابلونها كل يوم، فهي من نسج الخيال، ولا وجود لها في الواقع!”
الحيادية والشعرية
وتبدو هذه التقنية الذكية باستخدام الرسائل الفردية المنفصلة، في تجربة ريم نجمي، هي الحيلة الملائمة لإنجاز مكاسب ومراوغات جمالية متعددة. فالكاتبة في عملها الروائي الأول، بعد ثلاث مجموعات شعرية تعكس صوت الأنا وصورتها، تريد عقد رهانها السردي على ادعاء الحيادية، وتنوّع الأصوات المستقلة، من دون أن تطغى ذاتيتها وأفكارها الشخصية ومنابعها الداخلية على قناعات الشخوص وذهنياتهم وضمائرهم وتوجهاتهم.
ومن جهة أخرى، فإن تلك الآلية القائمة على المكاتبات المؤرخة والتساؤلات والردود والمناقشات والمشاحنات والمشاجرات حول مواقف مشتركة وأمور محددة وتصرفات وسلوكيات بعينها لها أكثر من تفسير، هي آلية تحيل إلى قدر من الواقعية والمصداقية، وإلباس المتخيَّل ثوب الحقيقي، خصوصًا بعد وضع الزوجة (إحدى شخصيات الرواية) في موضع مؤلفة العمل، والتمهيد للرواية قبل بداية فصولها بهذه العبارة المثيرة الشيّقة “شخصيات هذه الرواية، وإن بدت شبيهة بشخصيات واقعية، فإنها هي الشخصيات الأصلية. أما الشخصيات الواقعية، التي تقابلونها كل يوم، فهي من نسج الخيال، ولا وجود لها في الواقع!”.
وعلى صعيد ثالث، فإن الرسائل البوحية الاسترسالية التي تشغل فضاء الرواية بالكامل، تفتح للمؤلفة بابًا خلفيًّا، مقبولًا ومستساغًا، لتمرير ما هو شعري متدفق بين ثنايا السطور، وكذلك ما هو فلسفي، لاسيما أن تلك الرسائل أو الفيوضات يكتبها ثلاثة أفراد من المتخصصين في الأدب العربي والألماني والفكر والصحافة وعلوم اللغة والترجمة، الأمر الذي يُوجد بمرونة مبرراً “طبيعيًّا” لأن تأتي الرسائل وجبة دسمة، معبّرة عن الطبقات الإنسانية العميقة، ومشحونة بالقصائد والصور والتأملات والمشاهد المسرحية واللقطات السينمائية، وحافلة باستعراض مجالات الثقافة وأوجه المعرفة بالفنون والآداب والنظريات والفلسفات والعلوم المختلفة، كالاجتماع وعلم النفس والتنمية البشرية وغيرها، إلى جانب استحضار تجارب ونماذج متعددة كأيقونات للفشل في الحب والزواج “فكرتُ في قصص الحب التي لم تكتمل، وانتهت بالطلاق. فكرتُ في إليزابيث تايلور وريتشارد بورتن، في براد بيت وجنيفر أنستون، في نيكول كيدمان وتوم كروز. لا أعرف لم ارتحتُ لأن أقتسم هذه الخيبة مع هؤلاء المشاهير؟”.
ومن فرط العناية الأدبية والفنية بهذه الرسائل، فإن مقتطفات ونثارات منها تكاد تصلح في بعض الأحيان لأن تشكل نصوصًا وشذرات إبداعية منفردة، ولعلها تلبي في جانب من جوانبها حنين المؤلفة إلى كتابة القصائد المختزلة المضغوطة، على أنها تخرج هنا من المسار المونولوجي الأحادي في الدواوين الشعرية إلى خدمة التوظيف الدرامي في الرواية. ومن ذلك على سبيل المثال “أخطو بقوة وكأني أجرح وجه الأرض بشفرة حلاقة، أنتقم منها، لأنها جمعتني بك في يوم من الأيام”، “انفصالنا خسارة واضحة وملموسة. أما الربح فإنه يقف كرجل متخفّ في آخر النفق، قد يأتي ولا يأتي”، “أحياناً تصبح المعاناة طريقنا الوحيد إلى النجاة. إن الألم هنا هو ذلك الشريط الطبي اللاصق، الذي نضعه على الجرح، وكلما طالت مدة وضعه، التأم الجرح سريعًا”، “هل تلك الكلمات المنفعلة التي قلتُها كلماتي، أم طيور غاضبة غادرت شجرة حياتنا في الخريف؟ هل أنا حقًّا زوجتك، أم كوخ بارد في العراء، لم تسكنه أبدًا؟”.
جماليات التفاصيل
تحيل الرواية في مداها الزمني القصير إلى حدث محوري، هو انفصال الزوجين؛ “عادل”، ذي الأصل المغربي، والألمانية “يوليا”، بعد زواج انبنى على حب عنيف وتوافق روحي وانسجام جسدي ودام 25 عامًا، ثم بدأت تغزو علاقتهما الأزمات المتتالية ويمزقها الفتور والجمود وتدمّرها الفروق والاختلافات بينهما في العرق والدين والجذور والخلفيات الثقافية والحضارية وغيرها، وهما على مشارف الخمسين، من دون أن ينجبا أطفالًا.
وعلى عكس ما يقوله ماركيز من أنه “في المحنة يصبح الحب أكبر وأكثر نبلًا”، فإن الزوج (الأديب والكاتب الروائي والباحث المرموق) يترك منزل الزوجية في بون مستاء من الروتين اليومي والمنغصّات التي طرأت على الحياة الزوجية ومحاكمات نهاية الأسبوع وزوال الشغف والتوهج، ليقيم وحده في برلين قرب عمله الجامعي وورشه العلمية التي يعقدها طلابه، وتظل زوجته (الصحفية والأديبة والمترجمة) محتفظة بالأمل في استعادته، وإعادة المياه إلى مجاريها، ومراجعته في اتخاذ قرار الانفصال.
وتدور رسائل كثيرة بينهما في هذا الصدد، لكنها تقود إلى تدهور العلاقة أكثر وأكثر، حيث يلقي كل طرف اللوم على الآخر متهماً إياه بأنه السبب في فساد الحياة الزوجية. وتختلف تفسيرات كل منهما للأمور الكبيرة والصغيرة، بما في ذلك تفسيرهما لعلاقة الحب الجديدة في حياة عادل، التي تجمعه باللاجئة السورية “جوري”، الطالبة لديه في الجامعة، والمهتمة بالشعر والأدب واللغة، إذ يجزم عادل أنه لم ينشغل بجوري ويقدم على الارتباط بها والإنجاب منها سوى بعد تصفية حياته القديمة بالطلاق “جوري ليس لها دخل في انفصالنا”، في حين ترى زوجته أن ظهور جوري في حياته هو الذي دفعه، شعوريًّا أو لا شعوريًّا، صوب إنهاء الزواج ليقترن بالشابة الصغيرة “يا عديم الشرف، هل أحببتَها فعلًا أم أحببتَ فيها رائحة امرأة عربية؟”.
إن ما تقدمه الرواية كمجال للتفوق والتميز ليس تفجير أطروحات معقدة وقضايا وعناوين عريضة، وإنما هي تعنى في المقام الأول بتشريح الرغبة والمشاعر الإنسانية كما يقول عنوانها، وتقصّي جماليات التفاصيل الدقيقة واعتصار رحيق اللحظات العابرة بكل ما فيها من وصلٍ ونأي، وعشق وصدّ، وثرثرة تتجاوز العادي والمجاني إلى الممتع والدال، وجدل ونزاعات وصراعات ربما على أتفه الأسباب “مَن مِن الزوجين يتحكم في ريموت تشغيل التليفزيون، ليفرض استحواذه؟!”.
والمدهش أن جماليات التفاصيل تنسحب كذلك على تحليل المواقف والمشاهد المفعمة بالقسوة والانتقام والاندفاعات غير الأخلاقية، كتلك الرسائل المتبادلة مثلًا بين عادل ويوليا، إثر اكتشافها قصة حبه لجوري بالصدفة بعد فتحها بريده الإلكتروني، حيث أرسلت له صفحات كاملة من التحقير والشتائم المبتذلة ظنًّا منها أنه كان يخونها مع جوري قبل حدوث الطلاق، وبدوره أجابها عادل في رسالته إليها بوصلات سباب مطوّلة وتحقير مضادّ، واستغرق في تكسير عظام زوجته أكثر مما استغرقه في إثبات براءته من خيانتها.
قائمة الصدامات
وتصل الرواية في نهاية المطاف، على أكثر من مستوى، إلى استحالة استمرار “العيش المشترك” بين المتنافرين في المجتمع الغربي. ومهما بدت الرحلة في بدايتها مثالية، فإن الأيام كفيلة بفضح العورات، ومحو المبالغات، ووضع حد للزيف والتمثيل. ومع لحظة الكشف، وتسمية الأشياء بأسمائها، يتجلى الوجع: “تريدين أن تعرفي لمَ خسرنا تلك الحياة المشتركة، ولمَ نزلتُ من القطار في منتصف الرحلة؟ لكن المعرفة تساوي الألم. إن كشف مواطن الخلل جارح، لكنه ينقذنا من الاستمرار في خديعة أحدنا الآخر. تماماً كما لو أننا نمشي في حديقة جميلة مُتشابكي الأيدي، لكنّ قدمينا داميتان بفعل الأشواك وشظايا الزجاج، غير أن كل واحد منا يبتسم للآخر ليخبئ شعوره بالألم”.
ومن بين ثنايا سطور الرسائل الزاخمة، تظهر كذلك لمحات وإضاءات حول شخصيات ثانوية أخرى، كأفراد عائلة عادل في المغرب، وألفونسو صديق يوليا، الذي أحبّها سرّاً، ووالدتها الأوكرانية، ووالد جوري ووالدتها اللذين لحقا بها إلى ألمانيا كلاجئين، وأخيها الذي لقي مصرعه في غارة بسوريا، وغيرهم. وتعكس المنظومة برمتها، من الشخصيات المحورية الثلاث، والشخصيات الثانوية، قائمة من الصدامات والمصالح المتضاربة والعلاقات المحكوم عليها بالتفسخ والانهيار.
هناك مثلاً الصدام الأزلي بين الشرقي والغربي (عادل المحب للتلقائية والفوضوية والمليء بالمشكلات والتناقضات والعقد النفسية، وزوجته يوليا المرتّبة حد الهوس والمحكومة بالانضباط والنظام والنظافة والمثالية الشكلانية)، والصدام العقائدي (إصرار عادل على الصيام الإسلامي رغم عدم تدينه، وسخرية يوليا من ذلك)، والصدام العنصري (المعاملة السيئة لوالدة يوليا بألمانيا لأنها من أصول أوكرانية)، والصدام الإيديولوجي والفكري والحزبي (انتماء يوليا لحزب اشتراكي يدعم اللاجئين، واتخاذها رغم ذلك موقفاً عدائيّاً من جوري السورية بوصفها تستحق العطف والإحسان لكن لا تستحق الحب والمساواة بها).
وهناك كذلك الصدام بين الذكوري والنسوي (معارك عادل ويوليا من أجل فرض الكلمة والسيطرة، حتى في ممارسة العلاقة الحميمية)، والصدام بين العشق المنزّه المجرّد (علاقة ألفونسو بيوليا) وممارسة الحب كاحتياج روحي وجسدي في آنٍ (علاقة عادل بيوليا ثم بجوري)، والصدام بين خريف العمر وربيعه (علاقة عادل بجوري، وحقد يوليا على جوري)، إلى آخر هذه الصدامات التي تبرزها الرواية كنقاط للاختلاف، من دون أن تنحاز إلى طرف دون سواه في دفاعه عن رأيه وموقفه من وجهة نظره، الأمر الذي يمنح العمل حيوية، ويُكسبه سعة أفق، وتنامياً دراميّاً، ووعياً ناضجًا.
خاص قناص