جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

حانةٌ بعيدة.. صالح العامري شاعر الحافة والظلّ

يتقدّم كشاعر عابر يشبه ظلّه أكثر مما يشبه صوته، دون أن يأخذ هيئة نبي أو شاهد، بينما تمرّ الذاكرة كصوتٍ خافت، صوتٌ يطلبُ الفهمَ أكثر من الاستعادة.. الحديقة التي يجرفها صوتكِ الذي يجرفني إلى الحديقة

حانةٌ بعيدة لـ صالح العامري

بقلم عماد الدين موسى

يُعد صالح العامري (من مواليد شناص، 1965) أحد أبرز الشعراء العُمانيين الذين كتبوا القصيدة من تخوم اللغة، ومن داخل التجربة الشعورية العميقة، حيثُ يمتلك صوتاً شعرياً متفرّداً يتجنّب الزخرفة اللفظية ويغوص في مساحات الصمت، جامعاً بين التأمل الداخلي والتعبير المتفجّر.

يضم ديوانه الأحدث «حانةٌ بعيدة»، الصادر عن دار جدار في مالمو (2024)، أكثر من ستين قصيدة موزّعة على قسمين: «أرجوحة لا تعود إلى رشدها» و«ها قد اخترقني جرحك، ها نهبتني حُمّاكِ»؛ تتخذ من العزلة والحنين والحوار الداخلي منطلقاً لبناء عالمها الشعري. الكلمات في هذا الديوان تخلق واقعاً جديداً، وتقدّم للمتلقي تجربة تتجاوز المباشرة، وتدعوه إلى التورط في العمق.

ملامح عالم العامري الشِعري

ينفتح عالم الديوان على فضاءات مركبة تتداخل فيها الذات مع الغياب، والزمن مع الذكرى، والحنين مع التجريد. العالم الشعري لدى العامري يتكوّن من الهشاشة والعتمة والتوق. لا مكانا ثابتاً، ولا لحظة تُمْسَك، بل حركة دائبة نحو البعيد، نحو ما لا يُقال. القصيدة تبدو وكأنها شرفة تطل على الداخل، لا على الخارج. يسكنها التردّد، وتتخلّلها أسئلة لا تنتظر إجابات.

يقولُ الشاعر: «أنا البحّار الذي سفينته تحتفي بالغرق/ وحباله تكتب الصعود إلى القيعان/ أنا الدرويش الذي ما كاد يُصعق بزاويتك/ حتى شهق في منتصف الحلقة».

في هذا المقطع، تظهر صورة الشاعر ككائن يعيش تناقضاته بعمق؛ البحّار الذي يرى في الغرق احتفالاً لا خلاصاً، والحبال التي وُجدت للصعود تتحوّل إلى أدوات هبوط، والقيعان تصبح مقصداً لا مهرباً. أما صورة الدرويش، فهي تعبير عن التوق الصوفي للحلول، غير أن التجلّي لا يكتمل، إذ يختنق العاشق في منتصف النشوة. القصيدة هنا تقدم رؤية داخلية للعلاقة مع الذات والآخر، قائمة على التوتر بين الكشف والانقطاع.

يظهر الحزن في هذا الديوان بوصفه أساساً للرؤية، ويتجذّر في نسيج التجربة الشعرية كخلفية دائمة للوعي والتأمل. الشاعر يكتب من منطقة شعورية مشبعة بالخسارات، حيث لا تبدو الأشياء في أماكنها، ولا يستقر المعنى. الحبّ، الطفولة، الذاكرة، كلّها تمرّ داخل النص كأصداء بعيدة، والقصيدة تودّعها بصمت يشبه الاستحضار المؤلم.

تتميّز لغة العامري بالكثافة والانزياح، وتعتمد على توتر الجملة واختلاف الإيقاع، أكثر من ارتكازها على البلاغة الظاهرية. يبني نصوصه على التشظّي، ويترك للمقاطع أن تتناثر دون رابط خارجي مباشر، لكنها تلتقي في الشعور العام، وفي النبرة التي تحافظ على اتساقها الداخلي. اللغة هنا تتجاوز كونها وسيلة تعبير، وتعمل ككيان شِعري مستقل.

الشاعر معلقاً بين التجربة والكتابة

تحضر الأنثى بوصفها ظلاً، طيفاً، حضوراً يتشكّل ويتلاشى، وتشكل جزءاً من البنية الشعورية للنص أكثر من كونها موضوعاً عاطفياً. تظهر ككيان يحفّز الكتابة ويثير السؤال، دون أن تكون مُخاطَبةً مباشرة. الأنثى تتقاطع مع المكان، والذكرى، والغياب، وتُشكّل مركزاً غامضاً للحركة الشعرية.

بينما تمرّ الذاكرة في القصائد كصوتٍ خافت، يطلب الفهم أكثر من الاستعادة. الطفولة تُستدعى بوصفها مكاناً تأسيسياً للألم، وتظهر كجذر غامض يحرّك اللغة ويُربك السرد، بعيداً عن صورة الملاذ.

يقدّم العامري في هذا الديوان صورة الشاعر ككائن معلّق بين التجربة والكتابة، لا يطمئن إلى لغة، ولا إلى فكرة نهائية. ينقّب في المعتم ويتحرّك ضمن شروخ الذات من غير أن يقدّم خُلاصات. يتقدّم كشاعر عابر يشبه ظلّه أكثر مما يشبه صوته، دون أن يأخذ هيئة نبي أو شاهد.

يظهر المكان في الديوان كأثر داخلي يتكوّن من الشعور والتجربة، بعيداً عن حدود الإطار الخارجي. فالحانة تُقدَّم كموقع يتجاوز المكان المادي، وأشبه بحالة رمزية تُشير إلى التوق، والعزلة، والانكشاف. الطرقات، المدن، الغرف، تأتي كمجازات لحالات شعورية، لا كمواقع جغرافية. المكان هنا يتشكّل داخل اللغة، ويتحوّل إلى رمز، لا إلى جغرافيا.

جماليات الأسلوب

ينبني أسلوب صالح العامري على التوتر الداخلي للجُملة، وعلى مفارقة الصورة. يتخلّى عن الإيقاع الكلاسيكي، ويبتكر إيقاعاً داخلياً يتولّد من انكسارات المعنى وتقطّع العبارة. هناك مزج بين الحسيّ والتجريدي، بين الجملة اليومية والتلميح الفلسفي. البناء الشعري يقوم على الحذف، والتكثيف، والانزلاق الشعوري.

يحضر البعد الصوفي في هذا الديوان كأفق شِعري داخلي. القصيدة لا تكرّر مفردات التصوف بقدر ما تستدعي بنيته الشعورية. الدرويش، الحلقة، الزاوية، الغياب، كلها إشارات إلى علاقة غير مستقرّة بين الذات ومركزها. التجلي لا يكتمل، والعشق يتحوّل إلى شهقة غير تامة. الشاعر يكتب من منتصف الطريق، لا من نهايته.

من جهةٍ أُخرى، تُشكّل عناوين القصائد عتبات شِعرية مستقلة، تُطلق توتّر النص من دون أن تشرحه. من أبرزها: «أرجوحة لا تعود إلى رشدها»، «سلالم إلى أوفيليا»، «الحديقة التي يجرفها صوتك الذي يجرفني إلى الحديقة»، و«غفوة تحت شجرة الحب». العنوان عند العامري جملة ذاتية نابضة، تحمل مفارقة وتكثيفاً، وتُضيف للنص بعداً رمزياً إضافياً.

يمثّل ديوان «حانةٌ بعيدة» ذروة نضج تجربة صالح العامري الشعرية، بما يحمله من توتّر لغوي، وبنية مشحونة، وصور تعكس علاقة مركّبة مع الذات والعالم. تمضي القصيدة نحو انكشاف بطيء، دون أن تُعنى بالوضوح المباشر. الكتابة هنا تنطلق من الداخل، وتعود إليه، دون أن تُغلق معناها. هي كتابة تُفضّل الهامش على المركز، والسؤال على الجواب، والظلّ على الضوء. في «حانة بعيدة» يمنح العامري القارئ تجربة شِعريّة حميمة، تتجلّى عبرها القصيدة كأثر إنسانيّ لا يُنسى.

*****

الشاعر السوري عماد الدين موسى

خاص قنّاص – جَدل القراءات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى