يكثّف الفنان ستار كاووش من أعمال البورتريه ليستخرج مع الصورة الشخصية ما تملي عليه مخيلته من جوانب تحافظ على فرادة بحثه الجمالي في طريقة زاخرة ومليئة بالزخرفة، كأنه بذلك يحول الوجه وملامحه إلى طاقة ذات نضارة في بنائية تساري رؤيته الخاصة مع كل شخص، في مثل هذه الممارسة يستدعي كاووش ايقاعاً متفرداً له مركزية وبنيات تصويرية معتمدة على خطوط مستقيمة أو متعرجة داخل العمل الفني يضاف لها جو من التعبير اللوني، وهو عادة ما يلجأ إلى متعاليات جمالية في رسم الوجه ليبقي جانباً وينفرد بالنصف الآخر أو يتقاطع الوجه بخاصية تتعاظم فيها غواية الحركة المتكونة من طابع زخرفي مع الاحتفاظ بالصيغ التعبيرية والتحكم بالبنائية وسياقها الشكلي، حيثُ أغلب أعماله الفنية أنتجت للمتلقي بمادة الأكريليك على الكانفاس، وهي طريقته القديمة التي تمثل له ممارسة محببة ولكنه في الحقيقة غالباً ما يقوم بعمل (صغير غايته انه يكون تجريبياً) يعد بمثابة دراسة أولية على بورد من الخشب، بعدها ينفذه بحجم أكبر على الكانفاس. وهنا ستاتي اللعبة والممارسة الأكبر؛ إذْ يضع طبقات خفيفة من الألوان فوق بعضها وهذا ما يمنح اللوحة طاقة من الانسجام. يقول كاووش في أكثر من حوار معه بأن الرسم يشكل بالنسبة له الدخول إلى منطقة سحرية تلازمه بانفعاله وهدوئه تلك المنطقة الحرجة ستكون غامضة دون معرفة النتائج النهائية وكيف ستكون، ثم تأتي بعد ذلك الممارسة الأصعب من حيث الرؤية ليضع بقعة لون زرقاء قاتمة هنا وبجوارها لمسات من التركواز، ثم يضيف لها طابعا من الأخضر، ويمرر في زاوية أخرى شيئاً من الأزرق الفاتح، مع لمسات بضعة خطوط هنا وهناك وبعض المساحات المُعتمة، وإن احتاج الأمر، يعمل على تغطية كل ذلك بطبقة خفيفة من الأخضر الفاتح أو الأوكر ليحصل على مناخ اللوحة.
أتذكر أنه كلمني ذات يوم عن ممارسة البورتريه الذي يرسمه، يحاول فيه أن ينتج خطابا جمالياً يمزج بين شخصية الموديل أو النموذج وبين شخصيته الفنية، لهذا ترى سيلا من عاطفته المنسجمة مع تقنياته ضمن ملامح الشخص الذي يرسمه. ورسم البورتريه عادة ما يكون مختلفاً ببعض التفاصيل عن رسم اللوحات الأخرى، ففي مثل هذه الممارسة يبدو أن كل شيء محسوب بعناية، وليس هناك تفاصيل تأتي عفو الخاطر، لأنه يملك نموذجاً، رغم أنه يتحايل عليه بالألوان وطريقة التلاعب. أما في طريقة الخطوط فهي موضوعة بتصميم يجعله اكثر تماسكاً، والتكوين هو الآخر يصر على جعله متوازناً، وهكذا يجاري إحساسه مع جاذبية الوجوه التي يرسمها مع الاحتفاظ على مظاهر التعبير وخريطة رسم البورتريه.
مفارقة البورتريه
في محاولاته الفنية الممتدة لزمن ليس بالقصير يضعنا ستار كاووش أمام منجز تشتغل فيه التراكيب والخطوط والغنائية اللونية مع اتجاه استكمال رسم الوجه وملامحه وتقاطعاته فنجد مساعيه الجمالية حاضرة في استعادة رسم وجه جديد يخاطبه الفنان ويراهن على ضرورة مجاراته كنموذج فني يوفر طاقة من التعبيرية، ولهذا يمارس الفنان طريقة من التشخيصية تترك أثرها أمام المتلقي غالباً ما تميل للإثارة البصرية. فهو ينشئ ارتقاء في الوجه الآدمي له قواعد تخضع لمعايير وحسابات في الرسم تعمل على احتواء الشخصية بحيث تكتشف إن متعة الرسم تدفع بالفنان لتعميق مظاهر أسلوبيته الفنية فهو يميل في الغالب إلى تركيز معين ينصب فيه الاهتمام بالجانب النصفي للوجه المشخص وهنا يعمد على اقصاء جانب كأنه مخفي أو لا يتشابه مع الأحياء منا.
أما في رسم الوجه مكتملاً فهو يبرهن على التوجه نحو الكمال فلا يضع علامة فارقة ولا يربك المتلقي في استدعاء شكل مغترب بل هناك ثمرة من الفن تمدنا بشعور غريب، جاءت تلك الثمرة جراء ممارسة في فهم رسم البورتريه وتخليق نوع تعبيري يميل إلى النعومة والشفافية. من المؤكد أن لكاووش مرجعيات أسلوبية استمدها من الفنانين الغربيين لكن تبقى المفازة الكبيرة لعينه ووعيه حينما لم يبالغ في التشخيصية ويكمل رسوماته وهي تخلو من الشوائب والتأثيرات الأسلوبية، إنه يستدل على حقائق ذات جذر نفسي وليس غائباً عنا هذا الاحساس حينما ننظر لعمله.
التخطيط لفن يراعي الذائقة
لو تأملنا ما ينجزه الفنان ستار كاووش في فن البورتريه لتيقنا أنه لم يبد صعوبة بما يجاريه صاحب الوجه إنما يتقن كاووش لعبة العمل وفقا لإطار حداثي، وهنا يلجأ إلى وعيه في طرح التصوير وبراهينه الجمالية حتى لو اقتصر الأمر على صياغة ما لا يرتضيه المتلقي، إذن ثمة خيار آخر يستند إليه فن البورتريه وهو ترك سمات بنائية تخضع لإرادة الفنان، فهو لا يقدم وصفاً بطريقة قديمة مثلما فعل الجيل الاول من فناني البورتريه إنما هناك شبكة معقدة تبرز لنا من خلال الانفعال بالمظهر وسيل من الشبكة الزخرفية المجردة من التكلف. نحن أمام فن ليس متعارفاً عليه بل هو فن يحاكي الذائقة لأنه يعطينا بالأخير نتائج مبهرة لا تبدو طبيعية لكنها خلاقة ضمن سياق الفن ولذة التعبير في السطح التصويري، في الحقيقة نحتاج لمعرفة كيف يفكر كاووش وهو أمام اللوحة البيضاء كيف تلامس أنامله كتلاً لونية وخطوط وهيئات ووجوهاً يريد لها أن تحافظ على سياقها الطبيعي بينما يدخلها إلى مختبر فنه ليجتهد في القبض على فتنتها في رسم يوسع من أفق المتلقي وهو ينظر إليه، ما اعتقده في هذا السياق يكمن بالتخطيط المسبق وتكريس وقت يكون فيه الفنان صاف الذهن يتفحص وجه من يريد رسمه بالإضافة إلى تأمل من نوع خاص هذا ما يسبق العمل ونحن ندرك هنا أنه يكافأ طمأنينته بغاية الفن ومقدرته على ايصال أية فكرة تتبنى الإمساك بخيط رصين من فن يوازن بين الوظائفية والعامل النفسي وهذا ما نلتمسه من صور فنية ترافق المقال كما متوفر في الصور الخاصة ببورتريت صفاء السراي، اكريليك علـى كانفاس، وكذلك بورتريت الجواهري، وبورتريت هدى السراري، ورسم القاص والروائي العراقي شوقي كريم، وبورتريت محمود شقير، وأخيراً بورتريت خالد السلطاني، كلها تبدأ بملاحقة الفكرة وتمثيلها حتى تنتهي بتحولاتها التعبيرية المكرسة لخطاب رسم يعلي من أسلوبية كاووش وحساسيته حيث صدق التعبير وإثارة التساؤل حول جدوى ونوعية هذا الفن والغاية منه.
إننا ندرك في نهاية المطاف إن لحظة القبض على وعي الفن وفهمه تبدو صعبة ومنفصلة عنا لكن علينا أن لا نستسلم لفرضيات خارجة عن قوانين الفن وخبرته الأكثر من كل ذلك. هناك صفاء في تقديم هذه الفكرة والغاية من رسم البورتريت ومع كل ما تقدم أذكّر القارئ بمقولات بقيت راسخة في ذهننا من مثل الاستشهاد بمقولة نادين غورديمير (قد لا توجد أية طريقة أخرى لفهم الإنسان إلا من خلال الفن)، وهذا ما يسعى إليه ستار كاووش وهو يقدم لنا أعمالاً فنية رصينة مستوفاة لشرطها الجمالي والتعبيري.