القرويّ:
أمام إيقونة المسيح
ثمة شمعة محدودبة
كانت تدخّن مثل يوم زائل.
ثمة ماء يقطر داخل كأس قذرة
منسكبا من صنبور صدئ
وكان أنطونيس العجوز بعد عودته من الحقل
يُقلّم كعادته أظافره المتقرنّة.
ويرميها إلى علبة
كان يهز نفسه على الكرسي
حتى تصر ألواح الأرضية ويغفو.
هكذا بفم مفتوح -كان يغفو
يملؤه الشوق لابنته في غربته.
ذات ليلة سقطت شمعة فشبّت النار
واحترق القروي مثل أضحية.
لم ينج سوى العلبة -ميراث للبنت.
سيزيف:
دفع سيزيف حظه الحجريّ.
مسح العرق بيده المجروحة،
تطلع إلى الطيور المحلقة.
وللحظة نسي الحجر –
فتدحرج مع صوت الرعد.
بكى سيزيف.
كيف أحيا الآن؟
إلى أبي:
طالما تتحدث عن البحر،
عن غرقى ملفوظين على الساحل،
عن رحلات غير منجزة.
وفي ذاكرتك أناشيد عرائس البحر
وعوّامةُ أوديسيوس
التي تطفو عليها.
طالما تتحدث عن العاصفة
عن الأمواج بوجه بشري
وعن الصخور،
التي تنفلق الريح عليها.
أرَقُ المشكاة
في يديك المشرعتين.
من السيرة الشخصية:
أحببتُ منذ الطفولة فضاءات إيكار.
وفي بساتين اليونان حرّرتُ أكتاف الشجر
من ثقل الثمار.
منحتُ أخاديدَ الأرض الحياةَ
مصغيا لغناء زيز الحصاد ولرفرفة الخنفساء.
تحديتُ الرياح
متتبعا الغيوم حتى تشابك البلدان.
ربطتُ الجداولَ بلون النهار.
والآنَ أمنحُ السرو ظلي.
أ أصلُ السماء؟
الحفّارُ العجوز:
المكان نفسُه.
مقبرة القرية، كنيسة صغيرة،
مبنى إضافيّ صغير خلف السياج
يخر من سقفه الماء.
الحفار العجوزُ ببدلته المفرّشة
يلبس حذاءه المعقوف بدون إتقان.
يرفع أدواته الموحلة بكبرياء
مثلما يرفع الجنديّ بندقيته.
يحبّها ويتكلم معها.
عقب كل قبر يحفره يتوقف جانبا
بانتظار تابوت.
وبصحبة الندابات المحليات
اللواتي طالما يجامعهنّ
يدفن ذاكرة بشرية
مزيفة مثل العالم.
مثل طائر العنقاء:
لا أحد يأخذ الشمسَ منّي
أو ينزع أناشيد النهار من فمي.
أبصق على غدر اللحظة.
تنبض الحياة في عروقي المتضخمة.
حتى لو سقطتُ،
سأنهض مثل العنقاء،
أحلق من جديد بانتشار الجناحين
وأسبق الطيور.
قال الجدّ II:
سرتُ على طريق أبي الهول
وسألت من قابلتهم،
ما الحياة.
صمّوا أفواهَهم كالتماثيل.
قال الجدّ:
الحياةُ قرضٌ
ينبغي إعادته مع الفائدة.
قال الجدّ III:
علّموني أنْ أحبّ
بلغاتٍ أجنبية
آثرْتُ لغتي.
علّموني أفكارا أجنبية
اخترتُ فكرتي.
استقرأتُ علامات الشمس
من الأحجار.
وحسدتُ الطيور على موتها في تحليقها.
قال الجدّ:
من لا يتطلع إلى الأعلى،
لن يبلغَ حتى الرُّكَب.
عجوز:
1.
عجوزٌ تجلس أمام المنزل
تعدّ أيامَها بالمسبحة
أحيانا ترفع ناظريها كمريم العذراء
التي لا تتخلى عن المؤمنين.
عجوزٌ تجلس أمام المنزل
في انتظار أنْ تسقط قطرة ماء
من برعم الكستناء.
حياتها كسنبلةٍ ذابلة
فارغة في الداخل.
. II
عجوز
مدفوعة من زاوية إلى أخرى
تغادر محدودبة
بوجه متواضع لليل.
تسندُ نفَسَها بيديها.
ببطء تضع قدميها
على آثار الأمس
كالأعمى
الذي يعود دائما في الطريق ذاتها.
العجوزُ
عكّازةُ الناس.
آرَس هاجينيكولاو: ولد سنة 1973 في مدينة بوزنان الكائنة غرب بولندا في عائلة مثقفة لأب يوناني الأصل هو الشاعر، المترجم، ومؤرخ الأدب نيكوس هاجينيكولاو، وأم بولندية هي أستاذة جامعية. كانت تربطني بأبيه الراحل صداقة طويلة ومشتركات – عدا الشعر والترجمة والمشاركة في المهرجانات الأدبية والانتماء إلى اتحاد أدبي واحد- من بينها أننا مهاجران اضطرارا ومن بلدين قريبين جغرافيا من بعضهما البعض وتجمعهما روابط ثقافية قديمة. ستسعفنا هذه المعلومات في التعرف على شخصية آرس الذي عرفته صغيرا عندما كان في عربة الطفولة. لم أكن أتوقع أن يصبح شاعرا رغم أن ولعه وتخصصه الأكاديمي في الموسيقى وهي جوهر الشعر، وهذا بحد ذاته كان كافيا لعدم الاستغراب الذي آل إليه مصيره لاحقا. على أي حال، شجعه والده الشاعر نيكوس أمام أنظار الملأ، ونشر له أول مجموعة شعرية سنة 1997 بعنوان “بوجه الشمس”(اتحاد الأدباء البولنديين في بوزنان)، وفي المكان نفسه نشر بعد سنة مجموعته الشعرية الثانية “ابن بروميثيوس”، وفي 1999 صدرت مجموعته الثالثة “التفوق على الطيور” وهكذا لم تمر سنتان أو ثلاث من دون أن يصدر له كتاب شعري، حتى كانت مجموعته “صور واقعية”(2021) آخرها. سار آرس على خطى أبيه في مجال الترجمة والنقد فترجم من وإلى اللغة اليونانية الشعر والنثر والحكايات نذكر منها: “”أنطولوجيا الشعر اليوناني المعاصر”(بوزنان 2001)، واشترك مع أبيه في إعداد “سِفْر الأساطير اليونانية”(بوزنان 2006)، و”أنطولوجيا الشعر البولندي في القرن العشرين”(2003)، وترجم سنة 2016 من اليونانية إلى البولندية رواية يانيس كالبوزوس “التكية” حول اليونان في القرن التاسع عشر. وصدرت له “الأعمال الشعرية” وسواها وفي المجمل صدر له ثلاثون كتابا، وعشرات الأسطوانات الموسيقية، ونال عديدا من الجوائز الأدبية والموسيقية، وهو مؤلف، عازف وناشط موسيقي معروف من خلال تأليفه الموسيقي ومحاضراته الجامعية (نال الدكتوراه في العلوم الموسيقية) وحفلاته الموسيقية المشتركة في بولندا وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وآرس محب للثقافة العربية، خصوصا الموسيقى.