علي العامري في شِعره يقلع القشرة السميكة ما بين الشِعر والفكر
مثل زخات مطرٍ فجائية تنهمرُ صور الشاعر الأردني علي العامري في إصداره الشِعريّ الأحدث “كتاب الحدوس”، الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في عمَّان (2021)، والذي يتضمن 44 قصيدة منتقاة من ثلاث مجموعات شِعرية، هي: (“هذي حدوسي… هذي يدي المبهمة” و”كسوف أبيض” و”خيط مسحور”). فيضعنا في عالَمٍ شعري تكشفُ عن نظرته الخاصة وحدوسه تجاه الحياة. حماسة، نقاء، وجموحٌ عاصف، فمثلما نرى فرَحَه نرى غضبه، وما الشعر سوى صوت الغضب والتمرد.
نزعات لا عقلانية، وأخرى عقلانية، حيثُ الشِعر مع الفكر، جنباً إلى جنب: انتبهْ يا قرينَ اللهاثِ، فما عاد في الريح غيرُ الشحوبِ، المرايا قرابينُ مذبوحةٌ كالمواعيدِ، والوقتُ بئرٌ، إذنْ، لَمْلم الآن سلسلةَ البرقِ، واخفقْ على طرفِ الرّملِ، حتى تفيقَ الخزامى، وغَنِّ على التّلّ حتى تُضاءَ النفوسُ بأجراسها، وانتبهْ.. غَرِقَ الماءُ في الماءِ، هذي حدوسي، وهذي يدي المُبهَمة.
الصورة: الشاعر علي العامري | qannaass.com
يفاجئنا الشاعر في حدوسه؛ فاعلٌ ينعدمُ في فاعل، يباغتنا في صوره فيُمرِّر لحظاتٍ فلسفية، صوراً لفلسفته، لدهشته البدئية، الطفولية، الوجدية من الحياة، فيُمعنُ ويسرف؛ إنْ في رقَّته أو في قسوته، في صوره وحواراته التي تتصارع فيها الأفكار والرؤى، على إن الأفكار وُلِدَت من أجل الشعر.
علي العامري في “كتاب الحدوس” لا يستقرُّ ولا يستريح، يكتب حدوسه، إشراقاته باندفاعٍ حيوي، ثورة، غليان، شعرٌ يستعر حماسة للحياة في هذه الفوضى وهذا العماء، شعرٌ صاخب غنائي يومض ومضات برقية خاطفة من الفكر، في صورة انفعال ذي عنفوان قويّ: في منتصفِ الشهرِ الثامنِ، شاهدتُ طيوراً فوق الأقواسِ القزحيةِ، أقماراً مثل رسائلَ في البرّيّةِ، ماءً يلثغُ في الأسطورةِ، عاشقةً تتهجّى القلبَ، وتشعلُ بين الوديان شموعاً. كان الأزرقُ يرمشُ في خاتمِها، كانت تستلُّ بياضَ العتمةِ في الغيمِ، وبين يديها تلمعُ طاسُ الفضةِ، عاشقةٌ في منتصفِ الشهرِ، تقودُ البرقَ بحبلٍ من مسدٍ، وتربِّي وَعْلَينِ صغيرينِ وهالاتٍ في الجبلِ العالي.
إنَّها مخالب الحياة القاسية، لكن العامري يستمر في السرد، صوتٌ، أصوات، جدلٌ، حوار يكشف فيه عن عمقه الخاص، وعنفوانه، وعواطفه الجامحة التي تخترق القلب كما اللهب الثاقب نحو الذروة الخفيّة لينتصر الشعر: لو مزجنا النعاسَ مع الريحِ، أيُّ سلالمَ سوف تدلُّ الغريبَ إلى وَكْرِهِ المتناثرِ في جنّةِ التيهِ، أيُّ تراتيلَ تنهضُ من عتمةِ الماءِ، أيُّ تعاويذَ تلمعُ فوق ثيابِ الرسولةِ عند المغيبِ، وأيُّ كلامٍ يضيءُ المعادنَ في مخزنِ النومِ، أيُّ شراشفَ سوف تطيرُ، كما يتطايرُ ريشٌ من النارِ في منحنى امرأةٍ تتزيّنُ قدّامَ مرآتِها الكوكبيّةِ حتى ترى سرَّةَ الأرخبيلْ؟.
علي العامري (1962) في شِعره يقلع القشرة السميكة ما بين الشعر والفكر، فكل ما حولنا من الشعر عواصف نفسية، وشعور جنوني بالانكسار والخيبات. دراما وإن بدت في بعض القصائد خفيفة، لكنها قوية وعنيفة يكشف فيها العامري عن خور الإنسان وعريه عندما يكون أعزلاً مهما بدا عملاقاً، لأن الشعر، والشعور المأساوي لما حولنا وإن كنَّا في حالة من التوتر والقلق، فإنَّما لينقذنا. الشِعر ينقذنا من الجحيم فنحلِّق، نحلِّق وإن بالشعور، فالشاعر مهما بدا في صوره عنيفاً، فهو لا يمارس العنف، صحيح هو يسعى إلى الوحدة- وحدة الوجود، ولكنه الشاعرُ الحالم الذي ينتزع أو يقتلع العدمَ من اللاَّ وجود، فالشِعر ملح الحياة: حين تفيضُ الزلازلُ فوق سطوحِ البيوتِ، هنالك برقٌ يفكُّ الأزرّةَ حتى يهيجَ التباسُ الحريرِ، هنا ريشةٌ في جحيمٍ لذيذٍ، شتاءٌ على معطفٍ في التحيةِ، ليلٌ يمرجحُ ليلاً، ونجمٌ يقودُ النفوسَ إلى سدرةٍ في الحدوسِ، ونهرٌ يجرُّ نهاراتِهِ خلسةً تحت رَقْشِ الحصى، والبعيدُ يظلُّ بعيداً هناكَ.
الشاعر كما يبدو من (حدوساته) يهيمُ بكتابة الشعر، ما قد يشكِّل الخلاص له، لكأنّ الشعر ينزلنا من على الصليب، يذيب جبال الفكر الجليدية، ويجعلنا نشعر ونزهو بإنسانيتنا، يلهب الروح، يأخذنا من الصقيع إلى النار، يُرينا حتى لو كنا في الغسق ما لا نراه مع إشراق الشمس، الشعر يشفي الروح من الالتهابات المزمنة، يحرِّك القلب. علي العامري يحلِّق شعرياً، فعقله الشعري عميق وحيّْ، وإيقاعاته، صوره ذات لحن بالغ التأثير والثقل: في زاويةٍ ما امرأةٌ تنثرُ قمحاً لحمامٍ أبيضَ، ثمَّ تغطّي عينيْها بالشَّالِ الأسودِ، حين تفرُّ طيورٌ من عينيها الهادئتين.
“كتاب الحدوس” للشاعر العامري مُفعمٌ بالصّورِ؛ صور بالغة التكثيف والإشباع، تتدفَّق بسلاسة، منطلقة، مندفعة، رقيقة، صادحة مزبدة كماء مطرٍ منهمر.
عماد الدين موسى؛ شاعر كُردي سوري، مدير تحرير مجلة «قناص».