جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

مؤمن سمير.. شاعرٌ يخرجُ من عُلبة الصرخات! | شريف الشافعي

الشاعر المصري مؤمن سمير واحد من أغزر شعراء جيل التسعينيات في مصر والعالم العربي إنتاجًا (18 ديوانًا)، ومن أخصبهم فنيًّا وأعمقهم رؤية في سياق حركة قصيدة النثر الجديدة، التي تشكّل فضاءً مغايرًا وحساسية شعرية مختلفة تفرض حضورها الجمالي على المشهد الراهن.

وفي سلسلة إصداراته المتلاحقة، يأتي ديواناه الأخيران “ببطء كأنه كبرياء” (دار الدراويش، بلغاريا، 2022)، و”أصوات تحت الأظافر” (دار خطوط وظلال، الأردن، 2020)، ليعكسا وجهه الشعري الفادح، كطائر منتفضٍ يخرج من علبة الصرخات، حاملًا ذكريات مارد، وألوان جرح نازف، ورحيق ورودٍ خشنة، وبقايا ظلال وأشعّة شمسية على مقاس جيب ساحر عجوز.

يرسم الديوانان معًا صورة بانورامية لتجربة مؤمن سمير الشعرية الممتدة منذ قرابة ثلاثين عامًا، فديوانه “ببطء كأنه كبرياء” (75 صفحة) يضم أحدث 15 قصيدة له، وهي نصوص مفتوحة على مرتكزاته المحورية كشاعر يقف على حافة السرد، ويلملم أطراف الحكايات من الشقوق، وينسج الأساطير الشعبية والملاحم والبطولات على غير نسق سابق، ويحتفي بالعشق صوفيًّا وإيروتيكيًّا في آن واحد، ويلتحم بلحم الواقع من دون رفض للتسكع على أرصفة الأحلام وبناء حياة موازية في مكان مجهول، كصيّاد يراهن على اقتناص السعادة الافتراضية ولو بعد الفناء «طار الصياد وغنى: أنا نورسُ هذا البحر وحبيبه الوحيد، وإن كنت سأترك أحبتي قريبًا وأموت، سأموت وأنا سعيد».

أما ديوانه “أصوات تحت الأظافر” (200 صفحة)، فإنه يجمع بين دفّتيه جغرافيا الشاعر وتاريخه على السواء، إذ يتضمن مختارات من دواوين مؤمن سمير الأبرز: “هواء جاف يجرح الملامح”، “بورتريه أخير لكونشرتو العتمة”، “تفكيك السعادة”، “حَيِّزٌ للإثم”، “بهجة الاحتضار”، “سلة إيروتيكا تحت نافذتِك”، “بلا خبز ولا نبيذ”، وغيرها من أعماله اللافتة التي تبرز بصمته الخاصة.

ديوان «أصوات تحت الأظافر» (دار خطوط وظلال، الأردن، 2020)

مؤمن سمير ديوان «أصوات تحت الأظافر»

 

يشتبك مؤمن سمير في شعره مع الظواهر والأزمات المحيطة، لا ليسيطر عليها أو يعيد توجيهها، ولا ليحرس الغابات أو يهذب العواصف أو يشحن الماء العكر بالصفو والعذوبة، وإنما ليستمتع بنشوة المشاكسة ومراوغة السراب وتلبية نداء البدايات، كطفل مجبر على ممارسة الحياة في مهده، وهو يدرك أنه ليست في هذا الوجود فرصة ثانية، فالفرصة الوحيدة قد حدثت فعلًا وانتهت، وهي الوجود نفسه، مجرد الوجود «أبتهلُ ألا أنسى البئر التي اقترَبْتُ منها ببراءةِ طفلٍ فعادت بجعةً تقفزُ في الصورةِ. أودُّ أن أقولَ وأقول في أذنك يا حبيبتي حتى يُبحَّ صوتي وتَحْمَرَّ أذناكِ فآكلهما وأنتِ تُرخين السِكِّينَ ثم تبتسمين. أودُّ أن أبرِّئَ نفسي يا ناس لأعودَ إنسانًا يفرحُ ويغني ويطير. لكنَّ الفرصةَ ضاعت للأسف والوقتَ فات».

يفتش مؤمن سمير طويلًا عن الرعشة المفقودة في الطين الآدمي البارد، عن معنى الإنسانية الذي يخلع على دقات القلب دفئًا رغم تجمد الأوقات والساعات «الوقتُ أخرس بين الغَرَقِ والغَرَقِ». ويحرص الشاعر على مطاردة هذا الأثر الغائر في الحياة، والغوص البعيد العميق خلف النقش المطمور في سنوات العُمر، ليشق نافذة أو يفتح بابًا صوب المستحيل والمنسيّ والغامض، ويعانق الهامشيين والسّرّيين والمنفيين والمطرودين من الخرائط، بعدما يضغط العالم بقسوة على أزرار الظلم والإظلام.

وفي رحلاته الشعرية الاستكشافية، يكشط مؤمن سمير الأسماء الثقيلة والعناوين السخيفة من ذلك الوجود الفج الهش، ويراقص فقط أولئك الذين يشبهونه من المحظوظين، بخفة وطلاقة ورشاقة، فهم كلهم مثله، يظنون أن قشور الجروح السميكة تنطوي على مرحٍ صغير لم تصبه يد التسمّم، وتخفي، ربما، ضحكاتٍ مُسَبَّبة، وغير مسببة: «يبتسم، ويضغط على قلبه مرتين؛ مرةً لأنه يحسُّ بلذة غامضة، ومرةً لا يدري لها سببًا معلنًا».

على أن تجربة الشاعر تنبني في جوهرها على اللهاث خلف تلك الحفريّات الفريدة النابعة من الحنين، وتقصّي الأعماق للتفتيش عن جذور الأشجار المهملة، والصفات الإنسانية الممحوة، والغائرة في الطمي الأرضي الأخضر، وإعادة تدوير الأنفاس المشروخة والرئات الفاسدة والخلايا التالفة، بكل ما فيها من بارود ونيكوتين، والأظافر المشوهة والرثّة، بكل ما تحتها من خرائب ونفايات، ليتخلّق البُنّيُّ الشهيّ، مانحًا الأرض لونها وروحها ورائحتها وعافيتها، ويتفجّر الأحمر الحيويّ، بلون الدم والزهور، ليرسم أذرع الهواء، ويبلغ السماء العطشى المتشوقة إلى زائر مباغت: «الأحمر يجعلني منتشيًا، أرتعش/ شظيةُ السعادة أصابتني، فَطِرْتُ بخفةٍ.. مثل ورقة شجر». 

ولا يكف الشاعر في الوقت نفسه، بالحروف على الأقل، عن الإيهام بأن ثمة محاولات لا تنتهي من أجل مقاومة التحلل وتقليل وطأة الارتجاف، والتصدي لأعوان التجمّد والتصحّر والذبول، فالأيام لا يمكن أن تبقى أبدًا محطات للهرب، لو تحوّل الإنسان ذاته إلى محطة وصول، والحناجر بإمكانها ذات مرة أن تنوب عن الشموس والأقمار الغائبة في إطلاق الأطياف. وعند نقطة سحرية من مراوغة المخاطر، والاستهزاء بالقسوة، والتلذذ بكل شيء حتى التعذيب، يجوز الحلم بالتمرد على جاذبية السقوط، وشراسة القبور، والانقلاب على العدم ذاته: «أصير بلا ملفاتٍ ثقيلة الوزن، أو هوية/ أكون عندئذٍ، قد ضحكتُ على الموت، المنتظر في الشارع المجاور».

ولا يقصد الشاعر في تخييلاته الفنية إلى تفجير صور متضادة، ولا يرمي إلى هندسة مفارقات جزئية مرسومة، من أجل ابتداع طرافة شعرية أو خلق مواقف مشحونة بالاحتشاد والذهنية. لكنه على العكس، يترك الأشياء على سجيتها، لتتحاور مع بعضها البعض، وتنعكس علاقاتها ومساجلاتها على مرايا الذات الشفيفة، فيتلاشى الجِلْد الميّت، ولا تتحطم الأشياء، ولا تُحطّم الذات. وتقود التفاعلات السهلة إلى عناصر ومركّبات جديدة، تنتمي إلى الكيمياء المعروفة، لكنها لم تظهر في مختبرات التجريب من قبل: «أُخْرج من قلبي هواءً، أوجهه نحو الزجاج، ثم أسرع وأمسحه بجلدي الميت، كي لا تظهر الأكاذيب؛ تلك التي انتظرَتَها الرياحُ طويلًا». ولأنها مَشاهد بِكْر، فبلوغها مستحيل من غير المصداقية، التي تنطلي على كل شيء لكي يكون. وحتى الأكاذيب ذاتها، فإنها يجب أن تكون محبوكة، محكمة، قابلة للتصديق. وكذلك فلا جدوى للبكاء، باعتباره اللغة التي تتفوق على الكلام، إن لم يكن هو وجه الحقيقة من دون زيف أو أقنعة: «أبكي كثيرًا، من مسامّ، لم تزل بعد محتفظة بصدقها».

ويقترح مؤمن سمير في نصوصه التي تتراوح بين الطول والقصر لعبة لا يغفل عنها أبدًا، من أجل كسر أحادية الطرح وخلخلة المونولوج الذاتي، وتفتيت الأنا، وتشظية اللحظات والأمكنة نثارات. هذه اللعبة هي ثيمة السرد، حيث تتخلى الذات عن البطولة المنفردة في بعض القصائد، كما تبدو على الحياد أحيانًا، بل إنها قد تنسحب إلى خارج المنظر إذا اقتضى الأمر، وهنا تذوب الشَّعرة الوهمية تمامًا بين الشعر والقصة كجنسين أدبيين في التصنيف التقليدي، ويزداد التماهي بين النوعين وضوحًا مع تطعيم النصوص بالحوارات؛ الثنائية، والمتعددة: «البنتُ كانت فضية/ وكانت تنحتُ كل يوم، نبتة خضراء واسعة/ قالت لأمها: مَن يَحِلُّ الأمرَ، أنسى في فمه قُبلتي/ الحصان خَفَّضَ رأسه، ونَظَر معاتبًا». ويستعين الشاعر/السارد كذلك في لعبته بمفردات قاموس توصيلي، غير مجازي، متعطل عن الزينة والزخارف حدّ التقشف والمباشرة، إمعانًا في تحرير القصيدة من إرثها البياني والموسيقي المألوف، وتحريكًا للشعرية صوب ما يبدو للوهلة الأولى غير شعري، لكنه يهدف إلى اكتساب شعريته من الكلّي عندما يكتمل التعبير، وليس من جزئيات اللفظ والصورة والخيال في السطر النثري العاري: «تمصمص شفتيكَ/ لأنك الأفندي صاحب الشهادات/ لكنك بصراحة/ تخفي سعادةً/ سوف تُخرجها في يومٍ ما/ عندما تتغرَّب في بلدٍ بعيد».

ويمضي الشاعر في الوقت ذاته إلى تضييق مجال العولمي والكوني والعام لصالح المحلي والعائلي والحميم، فالذات الشاعرة في مطاردتها المستمرة للبدائي والأوّلي والفطريّ، وفي تفتيشها عن الدفء والائتناس، تلتحف عادة المظلة الأُسَريّة. وفي سبيل هذا التجمُّع الصغير المنشود، تعيد الذات تسمية الموجودات والكائنات بأسرها، فمعنى اللون “التركواز” على سبيل المثال هو «أن تكون محاطًا بالطيبين». وفي المقابل، فعندما تهرب من الأب تعويذة العائلة، فإن الشيطان يشاركه في الأم، ولربما يصير الأطفال أبناء جِنّ، رؤوسهم كبيرة، ويسري في عروقهم دمٌ أسود!

وهكذا، فإن كل ما هو سوريالي وغرائبي، يبدو شأنه شأن كل ما هو اعتيادي ومجاني ويومي، إذ تنسحب على الجميع قوانين الاستقطاب العائلي، ولا فرق بين قصة حياة نمطية مكرورة، وأخرى شيقة تصلح لأن تكون فيلمًا سينمائيًّا، فاللقطة الأهمّ دائمًا هي السلام المنزلي: «الأم والعمة والخالة والأخت يحلمن معاً/ الأم ترى الأب يموت مرة أخرى، فتفتح أيام “ابن سيرين”، وتقول: شخصٌ من رائحتنا، ستضحك عليه المصائب/ الهاتف الأسود القديم، نتجه إليه كلنا بسرعة الطيف، ونكون سعداء، حيث ننتظر الرنين».

ويبقى الشاعر على طول الخط منجذبًا إلى تلك الصداقات الهوائية، حيث لا يمل من مناداة الطيور الشاردة بعيدًا، على أمل واحد، هو أن يتحول فمه ذات مرة إلى وعاء للموسيقى، وأن يؤسس فضاءً يمكن أن تلتهمه الأجنحة من فرط العشق، وتحاصره الأضواء والألوان، وأن ينتزع الاستمتاع انتزاعًا من أنياب الثواني المؤجلة: «سوف يتوقف رقصُ الفأس، في جَيْبي الصغير/ حانَ العملُ المؤجلُ/ حانت المتعة الصافية». وهكذا تمضي بالشاعر أوقاته إلى موعد النهاية الحتمية «الذكريات في النهار، والحزن القاسي في الليل».

الشاعر المصري مؤمن سمير

خاص قنّاص – جَدَل القراءات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

‫2 تعليقات

  1. قراءة شريف الشافعي لتجربة مؤمن سمير مذ هلة وعميقة/تنقص القراءة ارفاق نصوص للشاعر لمن لم يقرؤه بعد /مثلي انا على سبيل المثال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى